مهند المصري – رئيس مجلس إدارة “مجموعة دامسكو”
تجربتي مع كتاب
“قصتي”، تجربة ممتعة بسردها للعلاقات الإنسانية وخبرات الحياة والسلطة ومفاتيح
عالم الاقتصاد وبناء الدولة.
غنية بسردها تاريخ “إمارة صحراوية” تحولت إلى “العاصمة الذكية” للعالم أجمع. رحلة قراءة مليئة بعمق الرؤية المؤسساتية، وعبئ مسؤوليات رجل دولة ورجل قائد بامتياز، وسياسي محنك وحِجّة اقتصادية فذّة، صب اهتمامه على العمل والتخطيط والابتكار وهي ركائز أي مشروع ناجح. هذا الكتاب واحد من أجمل الكتب التي قرأت مؤخراً.
الأسلوب الشيق في السرد، جعل
هذا الكتاب واحة ملهمة لأجيال كاملة، تمنحهم الأمل وتحفذهم على اتخاذ القرارات
الجريئة في كافة مناحي الحياة عن طريق “شق الطريق نحو معرفة العالم والحياة
بالتجربة والتعلم والتبصر والتأمل”.
حملني الكتاب لقراءة صفحاته
بنهم ومتعة لما تضمنه من معلومات تاريخية هامة حول إمارة دبي ومسيرة تطويرها، وإنشاء
الاتحاد، والمنعطفات المفصلية التي واجهت الدولة الوليدة حتى بلوغها ما هي عليه
اليوم من شهرة وقوة اقتصادية عالمية.
طالما أبهرتني المدينة المتطورة أبداً، والتفسير العلمي الوحيد “لظاهرة دبي” العالمية هي رجاحة الفكر النير الذي بنى هذه المدينة “العابرة للمستقبل”. كرجل أعمال مُقيم في دبي، يشد انتباهي “العقل التجاري” والبصيرة الاقتصادية التي توارثها حكام دبي لإيجاد مصادر بديلة لهذه الإمارة الغنية بغير النفط.
يتحدث الشيخ محمد بن راشد في عن التحديات الاقتصادية التي واجهتها دبي في مطلع القرن العشرين، فيقول في الفصل الثامنالذي يحمل عنوان: “185 عاماً من البحث عن “دبي”:“توقفت حركة الحياة الاقتصادية، لكن دبي لم تتوقف عن البحث عن مستقبلها.تعمَّقت أزمتنا الاقتصادية مع الحرب العالمية الثانية، وتعمق معها الإصرار لدينا للبحث عن بدائل”.
لفت انتباهي، أثناء قراءتي للكتاب هي الفقرة التي تحدث فيها الشيخ محمد بن راشد عن أهمية التجارة في عملية تطوير العجلة الاقتصادية لدبي، حيث يقول في ذات الفصل: “واصلت دبي رحلة كفاحها ورحلة البحث عن مستقبلها. واصلنا التركيز على ما نجيد فعله أكثر من أي شيء آخر: التجارة بشكل عام، وإعادة التصدير على وجه الخصوص”.
يعتقد الكثيرون أن الاقتصاد
الحر الذي تتبنها حكومة دبي هو وليد عقود قليلة من تاريخ الإمارة، ما تنفيه مذكرات
الشيخ محمد بن راشد حول أصالة النظام الاقتصادي الحر لدبي، يقول عن ذلك:”في
العام 1902، على إثر زيادة في فرض الضرائب عبر أرجاء الخليج عند ميناء لنجة، ألغى
الشيخ مكتوم بن حشر جميع الرسوم الجمركية على الوارادات، وفتح ميناء دبي للجميع،
ورحّب بجميع التجار.
ونتيجة لسياسته التحريرية هذه،
تدفقت البضائع الهندية إلى ميناء المدينة، وباتت دبي خلال فترة وجيزة مركز الخليج
لإعادة التصدير إلى الموانئ والأسواق المجاورة. وسرعان ما انتقل عدد كبير من تجار
الخليج الرئيسيين إلأى دبي، واتخذوها مقراً إقليمياً لهم”.
كما يسلط الشيخ محمد بن راشد الضوءعلى عراقة الفكر التجاري لدى شيوخ الحُكم في تاريخ دبي، نراه يتحدث عن ذلك في ذات الفصل إذ يقول:“وصية جدي لنا هي التنوع الاقتصادي وعدم الاعتماد على مصدر واحد؛ وهو ما سار عليه أبي الشيخ راشد من خلال بناء الموانئ، وتوسيع الخور، وتطوير المناطق الحرة والمطار، وإطلاق الشركات الكبرى”.
“تنويع المصادر هو وصيّة تتوارثها الأسرة الحاكمة، هو الضمان
أن ما وصلنا إليه بعد رحلة الكفاح لا يمكن أن نتخلَى عنه بالاعتماد على مصدر واحد
فقط للحياة”، هذه واحدة
من أهم النصائح لرواد الأعمال التي جاءت في هذا الكتاب من أجل تطوير وتوسيع
الاستثمارات وإنجاز المشاريع الناجحة.
رغم تركيز الشيخ محمد بن راشد على الشق السياسي ومقاليد الحكمفي هذه الفقرة:“نعم الإنسان لا يولد كاملاً؛ هو بحاجة لعقل غيره لاستكمال عقله ورأيه، وهو بحاجة لتعلّم مستمر لا يتوقف مهما بلغ من منزلة. القائد بحاجة لمشورة من حوله أيضاً، لكسب تأييدهم لخططه ومشاريعه؛ فلا يتكبر على النصيحة والمشورة إلا جاهل”،إلا أن هذا الاقتباس من الفصل الثاني عشر تحت عنوان: “ثلاثة دروس مع بداية حكم راشد”، ينطبق بقوة على عالم الاقتصاد والأعمال، إذ ينبغي على المدراء التنفيذيين ورؤساء الشركات والمؤسسات، الإقتداء بهذا الفكر المستنير في إدارتهم وعلاقاتهم العملية.
“صناعة القادة هي صناعة التنمية” هذه واحدة من الاقتباسات المليئة بالقوة والتبصر حول طرق التنمية البشرية وتوظيفها في خدمة الوطن.
إنَّ التركيز على الكفاءات
البشرية وخاصة الشابة منها من أجل عملية التطوير الشاملة في كل القطاعات الحكومية
والخاصة هي ضرورة تنموية. وحول هذه النقطة يقول الشيخ محمد بن راشد في كتابه: “استثمرتُ
بشكل شخصي في الشباب الطموحين الذين أحطتُ نفسي بهم في كافة المناصب التي تقلّدتها”.
معظم روادالأعمال ينتابهم هاجس
تعين الكوادر الصحيحة في مواقعها الصحيحة.
ولكن هناك ما يؤرق المدراء التنفيذيين ورؤساء الأقسام حولتشكيلهم فريق عمل يتوافق
مع رؤية المؤسسة و”إخلاصهم” لها. عن هذا أقتبس من ذات الفصل:“القادة
الذين نصنعهم يكونون عيوننا التي نرى من خلالها، وأيدينا التي نبني بها، وطاقات
خلّاقة تُضاف إلى طاقاتنا لتحقيق رؤيتنا التي نحلم بها”.
اعتقادي بضرورة وأهمية الاستثمار في الشباب وطاقاته الفياضة، عن ذلك يقول الشيخ محمد بن راشد حول ذلك في الفصل السادس والثلاثين، تحت عنوان: “التعاون” حيث يروي الشيخ محمد بن راشد قصية مثيرة (يمكنكم الرجوع إليها في الصفحة 207) يروي فيها ما حدث له على هامش أحد اجتماعات مجلس التعاون في بداية الثمانينات، لكنني أقتبس هنا ما يتعلق بالطاقات الشابة، إذ يقول: “كنت أحسُّ بالحزن لأننا لا نستعمل ثروتنا بطريقة أفضل؛ لا نثق بأفكار شبابنا، ولا نجرب شيئاَ مختلفاً غير الذي نعرفه”.
بعيداً عن عالم الأرقام والمال استوقفني فكر الشيخ محمد بن راشد من الفصلالتاسع والأربعين، تحت عنوان “البحث عن الإنسان”: “لا أعتمدُ على جهودي الشخصية في العمل الإنساني بل على الجهود المؤسسية لأنها أبقى وأدوم وأعظم أثراً”، وتعويله علىدور المؤسسة، أيّ مؤسسة كانت، في إنجاز العمل الخيري.
كما
شدني تركيزه على الإنسان في جوهره حين قال: “عندما سألوني لماذا أطلقت
“صناع الأمل” (مسابقة أطلقها الشيخ محمد بن راشد في عام 2016)، قلت
لهم: نبحث عن الإنسان في داخل كل إنسان”.
بالختام أنصح الجميع بغض النظر عن اختصاصاتهم أو اهتماماتهم أو مجالات عملهم قراءة كتاب ” قصتي : 50 قصة في خمسين عاماً” للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم فالفائدة فيه كبيرة والحكمة بين سطوره كثيرة.